ما أن يقبض المرء في هذه المنطقة على السلطة، حتى يصاب فوراً وبلا إنذار مسبَق بمرضَين خطيرَين لا شفاءَ منهما: الأول، مرض عدم التعلّم مِن تجارب مَن سبقوه الى السلطة والمراكز والجاه والأضواء فيروح يتصرّف مثلهم متّبعاً خطواتهم خطوةً خطوة وهفواتِهم هفوةً هفوة متناسياً أنّ هذه الخطوات والأخطاء هي التي حملته الى المركز والسلطة...
أما المرض الثاني الأخطر من الأول فهو اقتناعه الراسخ بأنه باقٍ في مركزه أو سلطته الى ما شاء الله، كونه لا يتصرّف كمَن سبقه الى المسؤولية، بل هو يحمل معه اليها كثيراً من الأفكار والمعطيات التي قد تؤبّده فيها ويرفض أن يصدّق مَن يقول له عكس ذلك، بل يعمل على تخوينه وقتله معنوياً أو جسدياً...
بألتاكيد أنّ أيّاً مِن هؤلاء لم يقرأ رواية الكاتب الروسي الكبير تولستوي «موت ايفان ايلتيش» والتي تدور حول طريقة تصرّف الناس مع الموت كأنه لن يطاولهم يوماً، أو هم في منأى عنه على رغم موت شاب طموح أمامهم وبلا إنذار مسبَق...
ونحن ما يهمّنا من هذه الرواية هو موت المركز واضمحلاله وزواله أمام التبدّلات والتطوّرات الآتية لا محالة ومن دون أن نستأذن احداً، خصوصاً مَن هم في اعلى المراكز واهمها... ومَن لا يريد أن يُصدِّق ندعوه الى مراجعة التاريخ وعظمائه الحقيقيين منهم والمزيّفين لكي يدرك كم هو عابر سبيل امام امواج الحياة...
وطالما أنّ الشيء بالشيء يُذكر في هذا الاطار، يدهش تصرّف المواطن مع هذا الزعيم او المسؤول الجديد والذي يكاد يكون نسخةً طبق الأصل لما كان يتصرّفه مع مَن سبقه، سواءٌ في الإذعان أو «تبيض الوجه» وتطبيقه للمثل الشعبي القائل «مين ما اخد امي بيكون عمي»، فهذا المواطن المسكين والبائس تعلّم في كتاب الخوف أن يتلطّى خلف عباءة الظلم والمحسوبية والاستزلام لمَن كان يملك مفاتيح الدولة حتى ولو كانت لأبواب غير موجودة أو لن تُفتح امامه... والاسوأ من ذلك فإنّ أيامه تمرّ، كما حياته، من دون أيّ تحسّن أو تطوّر في علاقته اليومية مع الدولة بما تمثل من دور في حمايته وفي تنظيم حياته كما تطوّر أعماله الخاصة او العامة...
والمضحك المبكي أنّ هذا اللبناني الصابر يرى أمامه تبدّل حال الزعماء والمسؤولين وتحسّن اوضاعهم المالية والاجتماعية وهو قابع في مكانه لا همّ له إلّا المحافظة على علاقة دونية مع مَن يحاول أن يستعبده، وأن يستغلّه ليبقى حيث هو... وما يثير الدهشة أنّ هذا المُستغَل يدرك في قرارة نفسه أنّ المُستغِل أيامه مهما طالت هي معدودة، ولكنه يرفض أن يبدّل مِن تعاطيه معه او أن ينتفض، ولو قليلاً، على واقع يعيش في دوامته مُرغَماً...
هذا الكلام لا يعني الاستسلام، بل هو وصف لحقيقة مؤلمة ومريرة لن تستقيم إلّا في حال ادراك المواطن العادي أنه عند الاستحقاق الانتخابي مهما كان نوعه محلّياً كان او نيابياً، يُصبِح مواطناً خارقاً يستطيع أن يبدّل اوضاعه وأن يشارك الله في الخلق وفي محاربة الموت.